السبت، 11 أبريل 2009

شتاء جهنم

قصة قصيرة / شـــتاء جهـــــنم

اشتد البرد في زنزانتي التي لا يضيئها سوى مصباح معلق في السقف كأنه فانوس يلفظ أنفاسه ألأخيرة ، ناديت ســـجاني الذي يقف على كرسي طويل في زاوية الغرفة وبفمه سيجارة :ـ
- أريد مدفأة تقيني برد الليل الشتوي اللامتناهي .
كان قصير القامة جدا ، زم شفتيه بلا مبالاة ، وظننت أن توسلاتي سوف تصيب المرمى واكسب الجولة من دون الخوض في سياسة العصا الغليظة.... قلت له بعطف ورقه : ــ
- وإذا لم تـكن هناك مدفأة . فتكفيني بطانية واحدة لفراشي وغطائي وسوف أتوسد حذائي ... نعم لا بآس ببطانية. واحدة ....
الشيء الوحيد الذي لم أجد له تفسيرا هو : هل كنت أهذي بسبب البرد القارس أم ان سيدي السجان لا يفقه ما أقوله . قطب حاجبيه ، ربما أدهشه طلبي . استدركت طلبي وأنا ألمح حلقات دخان سيجارته المحلقة في فضاء الزنزانة و كأنها
حبال مشانق ، قلت :ــ
- لا أريد بطانية ، أعطني لباسا شتائيا يتناسب مع طقس هذه الزنزانة الرهيبة......
أغمض السجان عينيه و سبح بعالم آخر ، تمتم بكلمات غامضة مثل كاهن فرعوني ، سحب الدخان عميقا ثم أخرجه مرة أخرى على شكل حلقات ، آه تقتلني هذه الحلقات ، تذكرني بالحبال الملفوفة على رقاب الضحايا . توسلت به كما يتوسل الغريق بقشة ، آه من سجان كتمثال روماني لا يتـــــــحرك، نقرت على قمة رأسي بأناملي الخشنة و الذي تمخض بفكرة رائعة سارعت بعرضها أمام سجاني صاحب الوجه الصخري : ــ
- البرد سوف يهلكني أسعفني بشاي ساخن يقويني على تحمل البرد ، أسناني تصطك ...
نفث دخان سيجارته بصمت قاتل ، ثم فرك انفه المستطيل و كأنه يستعد لخوض معركة ومضى يحدق في قسمات وجهي البائس ، تلاقت أناملي فوق رأسي و تلمست أذني ثم رجوت هذا الرجل الذي وقف كالوتد وهتــــفت :ـ
- أيها السجان المقدس ! ادع لي الطبيب فقد اشتد ألمي ، ان أنسانا سوف يموت قبالتك وإذا لم تستطع فاجلب لي أقراص جميع الآلام ، فإذا لم تستطع فأعطني قدحا من ماء نقي اروي به ضمأي ، و ذلك اضعف الأيمان .
ظننت انني في زنزانة قانونية كالتي قرأت عنها في صحف النظام ، لكن ما بال هذا الشرطي يقتلني بنظرات ميتة و كأن أساطيله غرقت في المحيط . كدت أبكي عندما ذكرت أمي وقد سهرت الليالي تذرف الدمع على أبي حينما أودع السجن قبل سنين مازالت كلماتها ترن في آذني مثل ناقوس كنيسة يقرع في واد ، كانت تـنشف دمعـاتها بمنديل عتيق ، و تلمــس كتفي برفق وتقــــــــــول :ــ
- السجن للرجال يا ولدي .يا أماه هذا في عصركم ، أما في عصـــرنا فمن يطيق نظـــرة السجان وســـــوط الجــــلاد ولسعة الكرسي الكهـــــــــربائي و حــــــوض التيزاب والمروحة التي تدور ملـــــــيون مرة في الثانية . وأشياء لا اعرفها أنا ولا تعرفينها أنت و..و.. و.. سألت هذا الدب المنفوخ جهلا وغباء : ــ
- كيف يطــــــيب لك الوقت في سـجن نــــــــزلائه أحرار وجـــــــلاديه عبــــــــيد ؟.أماه هذا المغفل البليد لا يجيب مرر أصابعه فوق شاربه الكثيف ورمقـــني بنظــرة استعلاء سألته مرة أخرى :ــ
- ألا تحب الحرية أيها السيد ؟ اعلم أنك مشغوف بها ، و أنا كذلك يا سيدي اعشقها وأود أن أعود لبيتي و أمي التي تنتظرني و قد أرهقتها سنوات الانتظار ، فهذا السجن كابوس مرعب .طقطقت أناملي ، ثم رفعت قدمي اليسرى من المستـنقع الذي يغطي أرضـية الزنزانة حتى ركبــــــــتي و توسـلت بسجاني الذي مازال يـنفث الدخان ، قلت :ــ
- رحماك أيها السيد ! لا أريد شيئا سوى الجلوس ، فأنا لا أستطيع في هذه الغرفة المغطاة بالوحل و الماء الآسن وفضلات رفاق غادرونا أن اجلس مثل باقي البشر ، هذا المستـنقع سوف يشل قدمي .
- رمى بعقب السيجارة إلى الماء الذي يملا الزنزانة تأهب فوق كرسيه الطويل الذي يغوص نصفه في ماء الغرفة لضربي ، أمسك سوطه بإحكام ، رفعه إلى الأعلى ولسع به كتفي. لقد انتهت استراحته بعد انتهاء سيجارته ، وهاأنذا استقبل سياطا جديدة من العذاب اللامتناهي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق